صحيفة الثورة – دمشق – سورية
العدد: 14265 تاريخ 7/2010/ 5 |
بمناسبة انعقاد قمة العشرين في تورنتو ( كندا 27/6/2010 – 26 ) وجّه الرئيس الأمريكي باراك أوباما رسالة إلى القمة , مما جاء فيها إن ” تحرير سعر صرف العملات ضرورة لدعم اقتصاد عالمي قوي ومتوازن ” , حيث اعتبر المراقبون هذه الإشارة دعوة قديمة مجددة للصين لرفع قيمة عملتها الوطنية . المطالبة الأمريكية برفع قيمة العملة الصينية قديمة منذ سنوات ازدادت حدتها مع الأزمة المالية العالمية وتداعياتها اللاحقة على الاقتصاد الأمريكي . هذا الإلحاح الأمريكي المزمن على رفع قيمة العملة الصينية يطرح جملة من التساؤلات عن مبرراتها و أهدافها و بالمحصلة عن مشروعيتها ؟
الاسم الرسمي للعملة الصينية هو ” اليوان الرنيمينبي ” أي ( عملة الشعب ) أو اختصاراً ( اليوان ) وسعر صرفه حالياً هو نحو 6,8 يوان لكل دولار أمريكي .
الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن سعر الصرف هذا لايعكس قوة الاقتصاد الصيني و أن هذا الخفض المتعمد لقيمة العملة الصينية يعطي الصادرات الصينية ميزة تنافسية قوية في الأسواق الخارجية و منها الأسواق الأمريكية ويهدد الاقتصاد العالمي . كما يتهم البعض في الولايات المتحدة الصين بأنها تقدم يومياً على شراء نحو بليون دولار من العملات الأجنبية الرئيسية لإبقاء سعر صرفها مرتفعاً و بالتالي الحفاظ على سعر عملتها منخفضاً مما يزيد الأمر سوءاً حسب رأي هؤلاء .
إن عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة مع الصين قديم و ذو اتجاه متصاعد على مدى أكثر من عقد . فقد ازداد هذا العجز من نحو 61 مليار دولار أمريكي عام 1998 إلى 268 مليار عام 2008 . هنا نسأل هل يمكن اعتبار انخفاض قيمة اليوان سبباً لهذا العجز ؟ شواهد الواقع تقول بخلاف ذلك ومن الشواهد التي نعنيها الآتي :
1 – في عام 2008 بلغ العجز التجاري الأمريكي مع العالم الخارجي 700 مليار دولار أمريكي منها 38 % مع الصين , وفي شهر واحد فقط شهر كانون الثاني من عام 2010 بلغ إجمالي العجز مع العالم الخارجي 43,3 مليار دولار منها 43 % مع الصين . تلك البيانات وما شابهها تشير إلى أن للعجز التجاري الأمريكي أسباباً أخرى غير صينية .
2 – منذ عام 2005 و حتى الآن ارتفعت قيمة اليوان تجاه الدولار الأمريكي نتيجة للضغوط الأمريكية وبقرار صيني بنحو 21% , مع ذلك سجل العجز التجاري الأمريكي مع الصين اتجاهاً متصاعداً حيث ازداد من 251 مليار عام 2006 إلى 268 مليار عام 2008 كما أشرنا سابقاً مما يوحي بأن أسباباً أخرى غير سعر الصرف تكمن وراء هذا العجز .
3 – منذ مطلع القرن الحالي و حتى الآن سجل الدولار الأمريكي انخفاضاً مستمراً تجاه بعض العملات العالمية الرئيسية . مثلاً انخفض سعر صرفه من 1,18 يورو لكل دولار عام 1999 إلى 0,69 يورو مطلع عام 2010 , مع ذلك استمر العجز التجاري الأمريكي مع العالم الخارجي في تزايد حيث بلغ 357 مليار دولار عام 1999 ووصل إلى 700 مليار عام 2008 . ومما يلفت الانتباه هنا إلى أن أحداً لم يطالب الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل على رفع سعر صرف عملتها كما هو الحال الآن مع الصين بحجج ودعاوى مايسميه بعض منظري و رسميي الاقتصاد الأمريكي ضمان التوزيع المنصف و توفير شروط المنافسة العادلة للتجارة الدولية , هذا يؤكد مرة أخرى ازدواجية المعايير و نفاق الدعاوى الأمريكية ليس فقط سياسياً إنما اقتصادياً أيضاً .
جملة القول إن المطالبة الأمريكية للصين برفع قيمة عملتها يفتقر إلى المشروعية , فسعر الصرف وفق الأعراف الدولية ليس قضية خارجية إنما قضية سيادية تخضع لاعتبارات الدولة ومصالحها . من الناحية الواقعية تلعب العملة الرخيصة دوراً في زيادة الصادرات إلا أنه في حالة أمريكا و الصين ليس الدور الأهم , جوهر المشكلة – وفق ما أرى – يكمن في الأزمة الداخلية التي يواجهها الاقتصاد الأمريكي و حالة النهوض التي يعيشها الاقتصاد الصيني .فالدين العام الأمريكي يبلغ نحو 11 تريليون دولار تعادل 79% من الناتج المحلي الإجمالي بينما بلغت هذه النسبة 62 % في الأرجنتين و هي من أكثر دول الجنوب مديونية , وفي أمريكا تبلغ نسبة الفقراء 12,5 % من عدد السكان كما تبلغ نسبة البطالة 9,7 % من إجمالي قوة العمل وهذه النسب مشابهه لمثيلاتها في العديد من دول الجنوب . ومن الأسباب الأخرى لعجز الميزان التجاري الأمريكي مع العالم الخارجي نمط الحياة المترف السائد في المجتمع الأمريكي المتسم بارتفاع الأجور و كثافة الاستهلاك , مما يزيد من تكاليف الإنتاج و يحد من القدرة التنافسية للسلع الأمريكية كما يحرض على زيادة الواردات لتغطية الطلب المحلي . أما في الصين فقد سجل الاقتصاد الصيني منذ أوائل الثمانينات و حتى الآن نمواً مستمراً تجاوز في بعض السنوات الـ 11% . فقد انتقل الاقتصاد الصيني من المرتبة السابعة عالمياً عام 1999 إلى المرتبة الثانية حالياً حيث ازداد حجم الناتج المحلي الإجمالي فيها من 1139 مليار دولار أمريكي إلى 5365 مليار , كما انتقلت الصين من المرتبة التاسعة عالمياً في مجال الصادرات إلى المرتبة الثانية ( بعد ألمانيا ) خلال تلك الفترة أي خلال عقد من الزمن .
تأسيساً على ما سبق لنا أن نستنتج بأن عجز الميزان التجاري الأمريكي ليس مع الصين فقط إنما مع العديد من دول العالم و أن هذا العجز لم تصنعه بكين بعملتها الرخيصة و ممارساتها التجارية الضارة إنما صنعته واشنطن باقتصادها المأزوم ونمط حياتها المترف .
الدكتور محمد توفيق سماق