فـن الممكـن ــ المقال رقم /141/

صحيفة الثورة   – دمشق – سورية

العدد:   14305 تاريخ  8/2010/ 24

فن الممكن هو التعريف الذي أعطاه للسياسة كليمينس فون مترنيخ وزير خارجية النمسا    و مستشارها على مدى سنوات عديدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر( عاش خلال الفترة 1773-1859 ) . في ذلك  الزمن  حاول مترنيخ بهذا التعريف الدفاع عن سياسة النمسا المرنة في تعاملها مع نابوليون بونابرت الذي اجتاحت جيوشه القسم الأعظم من أوروبا و لم يوقفها إلا هزيمتها على أبواب موسكو عام 1812 .

الاستعانة بمترنيخ وتعريفه الأشهر للسياسة ليست الغاية منه استحضار التاريخ إنما توظيفه فيما يخدم إيجاد صيغة مرنة للتعامل مع الاجتياح الرأسمالي للعالم بدوله و مجتمعاته .

بسقوط الاتحاد السوفيتي نهاية عام 1991 سقط نمط حياة اقتصادي و اجتماعي سمي في حينه بالنمط الاشتراكي و انتصر نمط حياة آخر عُرف بالنمط الرأسمالي     أو الليبرالي كما يحلو اليوم  للبعض تسميته .

من طبائع الأشياء أن يكون للهزيمة ثمن و للنصر جوائز . ثمن الهزيمة كان سقوط منظومة الدول التي ارتبطت بالاتحاد السوفيتي و اهتزاز الثقة بمقولات اشتراكية كانت لعقود طويلة فوق الشبهات و اتصفت لدى أجيال متلاحقة بما يشبه القدسية , مثل الحتمية التاريخية لسقوط الرأسمالية – الصراع الطبقي – الملكية العامة لوسائل الإنتاج ….. وماشابه . ومن جوائز النصر الرأسمالي كانت سيطرة رأس المال على قرارات الدول و ملكية مجتمعاتها من خلال الخصخصة التي تمت و تتم بأشكال مختلفة , أبرزها خصخصة الملكية و خصخصة الإدارة .

خصخصة الملكية عن طريق بيع أصول القطاع العام إلى القطاع الخاص أو استثمارها من قبل القطاع الخاص , كذلك مشاركة الدولة للقطاع الخاص في ملكية مؤسسات و شركات القطاع العام من خلال مايسمى بالتشاركية . أما خصخصة الإدارة فكان من أوضح مظاهرها العهدة إلى شركات إدارة  من القطاع الخاص إدارة شركات و مؤسسات القطاع العام أو الاستعانة بما يسمى خبراء لإدارتها …… وغير ذلك .

بصرف النظر عن أسباب الهزيمة و النصر و كذلك الرأي فيهما , فإنهما اليوم من حقائق الحياة التي تفرض على الجميع مؤيدين و معارضين , راغبين و كارهين التعامل معها .

التعامل الممكن في الزمن الراهن – وفق ما أرى – هو إطلاق قوى السوق و توفير المناخ الملائم لرأس المال للعمل و الاعتراف بحقه في الربح . بالمقابل و حتى لاتُترك غالبية  المجتمع من الفقراء مادياً و الضعفاء اجتماعياً لأقدارهم على الدولة التوسع في شبكات  الحماية أو مايسمى أحياناً بشبكات الأمان الاجتماعي التي تشمل الصحة, التعليم والضمان ( مشافي وجامعات و مدارس مجانية – تعويض بطالة – ضمان اجتماعي… وغير ذلك ) , على أن يتم تمويل تلك الشبكات من موارد الدولة من الضرائب و الرسوم التي تجبى من الجميع في القطاعين العام و الخاص وفق نظام تكليف ضريبي عادل .

جملة القول لندع رأس المال يمر و لندعه يعمل – كما يقول منظروا الرأسمالية – لكن لندعه يعرف و يعترف بأن للمجتمع في أرباحه حق يستوفيه بالضرائب و الرسوم .

ذلك هو الممكن الوحيد حالياً لأنه الممكن الذي يضمن التكيّف مع العصر و يساعد على حفظ توازن المجتمع  و استقراره بأغنيائه و فقرائه , أقول الوحيد لأن خلاف ذلك قد يعني الخروج من العصر أو الخروج على العصر .

أليس عصرنا هو عصر رأس المال ؟ ثم ألا تُعّلم تجارب الحياة بأن خوارج كل العصور كانوا نشازاً أو مهزومين ؟ .

 

 

                                                                   الدكتور محمد توفيق سماق